يبدو لي أن هناك أعداداً متنامية من المطالبين بالتغيير الذين بدأوا يشكلون كتلةً حرجةً ترى أن بقاء الأمور على حالها في الخليج أمرٌ غير مستدام، وأنه أصبح الآن أمراً واجباً المطالبة بالتغيير علناً، حتى لا تنزلق المنطقة في درب غير حميد قد يأكل الأخضر واليابس.
اختلفت الآراء بشأن حجم هذا التغيير وماهيته ووتيرته، بناءً على الأفكار والانتماءات والمصالح المترتبة. لايزال المطلب الأكثر تردداً بين التيارات السياسية الرئيسية في الخليج هو الإصلاح، وإن وصلت في بعض دوله إلى المطالبة بما هو أكثر من ذلك.
في رأيي أن ما يسمى عادة بـ «الاصلاح التدريجي» لم يعد يجدي نفعاً، وهو يماطل في التغيير الجذري الذي أصبحت جلية الحاجة إليه. هذه النقطة تحتاج إلى شرح أكثر تفصيلاً. أنا لست ضد تطبيق التغييرات أو الاصلاح بشكل تدريجي، فغالباً ما كانت هذه الطريقة الأسلم لتطبيق الأمور وتجنب الصدامات والتقلبات المترتبة من التغيرات الهائلة، وهو الدرب الذي تتبعه أغلب الدول التي لديها رؤية بعيدة عندما تطبق خططها. ما أقصده هو أنه لم يعد ينفع التشدق بمقولات مبهمة كـ «الاصلاح على وتيرتنا المحلية وفق خصوصيات المنطقة»، ومن ثم القيام ببعض الخطوات الخجولة دون وضع رؤية واضحة لمسار هذا التغيير، بما فيه الخريطة والزمن للوصول إليه. فلم يعد يفيد القيام ببضع خطوات مبهمة كمجالس بلدية لا تغني ولا تسمن من جوع، أو مجلس تشريعي عقيم، والقول ان هذه خطوات إصلاح تدريجية دون توضيح إلى أين ومتى نحن ذاهبون. المطلوب هو إصلاح وتغيير جذري، يتطرق إلى أهم أوجه الخلل المزمنة وكيفية معالجتها والمدة التي ستنفذ فيها هذه الخطوات. من دون ذلك فسينظر إلى أية خطوات أخرى كحركات مراوغة وحيل سياسية لكسب الوقت والهدن السياسية.
السؤال الذي يخالجني بشكل مسهب على مدى الأشهر الماضية هو ما مدى احتمال حصول التغيير الجذري الحميد، وإلى أي مدى يمكن أن يصل في نطاقه؟ بشكل أكثر دقة، ما هي المعوقات الرئيسية التي تقف في وجه هذا التغيير، الذي بإمكانه أن يخرج المنطقة من دوامة أوجه الخلل المزمنة التي هي فيها؟
من البديهي أن أكبر معوّق هو متخذو القرار، والذين سيقفون في وجه أي تغيير فعلي حقيقي، فهم الخاسر الأكبر في هذه الحالة. أظن هذا الأمر بات جلياً للجميع، وبينت التطورات على مدى السنتين الماضيتين في دول مجلس التعاون أن إمكانية التغيير الجذري بمحض إرادة متخذي القرار هي ضئيلة جداً، ونادراً ما تأتي إلا بعد مواجهات وتضحيات جمة. وحالياً لا توجد أية مؤشرات الى أن متخذي القرار لديهم أية نية حقيقية لتغيير أو إصلاح جذري في أي من دول المنطقة.
العنصر الآخر الذي قد يكون بالأهمية نفسها ولكن نادراً ما يتم التطرق إليه، هو صعوبة تقبل وتفعيل تغيير جذري حقيقي على مستوى باقي فئات المجتمع. أكبر عائقٍ من هذه الناحية قد يكون شبكة المؤسسات والمصالح والقيم التي أسّستها الدولة الريعية على مدى العقود القليلة الماضية، والتي ستقف ضد أي تغيير جذري في تركيبة الاقتصاد والمصالح التي بنيت حوله.
مثالان صغيران يفيان لإيصال النقطة. حاولت هيئة تنظيم سوق العمل في البحرين القيام بإصلاحات خجولة لمواجهة أوجه الخلل المزمنة المستفحلة في سوق العمل. جزء من هذه الإصلاحات شملت فرض رسوم يدفعها صاحب الشركة على كل عامل وافد يعمل لديه، في محاولةٍ لمقاربة الكلفة بين العامل الوافد والمواطن ولتغطية تكاليف دعم العامل الوافد التي تتكبدها الحكومة (من دعم لخدمات صحية وكهرباء ومياه وبنزين). كانت هذه الرسوم تذهب إلى صندوق أسّس لدعم تدريب العمالة البحرينية. المبالغ المفروضة كانت متدنيةً نسبيا (25 دولاراً شهرياً لكل عامل وافد)، وكانت أقل بكثير مما كان مقترحاً في بداية المشروع، ويعود ذلك في الأساس لمعارضةٍ شرسةٍ من القطاع التجاري الذي كان سيتكبد هذه الرسوم. خرجت مظاهرات منظمة من قبل أرباب العمل منددةً بهذه الرسوم وتبعاتها لأنها «تعطل أعمالهم ومصالحهم». وصل الأمر إلى إلغاء هذه الرسوم في خضم أحداث السنة الماضية بعد ضغطٍ شديدٍ من التجار، وبهذا انتهت هذه التجربة في «إصلاح» سوق العمل في البحرين بالفشل المرير.
تكمن المفارقة في خروج مظاهرات في الماضي القريب جداً، كانت تندد باستقطاب العامل الأجنبي خوفاً من مزاحمته للعامل المواطن في سوق العمل (كما حصل في العام 1972)، بينما اليوم تخرج المظاهرات تنديداً بالرسوم الزهيدة التي تفرض على استقطاب الأيدي العمالة الوافدة.
النقطة الأهم هي أن هذا التجذر في المصالح المنتفعة من الريع تجعل إمكانية التغيير الجذري على المستوى الاقتصادي صعبة، فلا متخذو القرار أو «الهوامير» (fat cats) أو حتى صغار المنتفعين لهم مصلحة من تغيير هذه الشبكة الريعية، ما يخلق تعقيداً في كيفية مواجهتها.
مثال آخر لتبيان هذا الأمر هو تجربة نعيشها شخصياً مع باقي الأهالي في «الفريج» أو الحارة في مدينة المحرق. أعلن المجلس البلدي لمدينة المحرق عن منع بناء أية عمارات جديدة في حارات المدينة التاريخية، لأن المسألة وصلت إلى حدٍ أشبه بـ (المسخرة)، حيث كانت تتساقط البيوت التراثية القديمة وتعلو في مكانها عمارات «شقق ودكاكين» من أقبح ما شيّد الإنسان معمارياً. أغلب سكان هذه الشقق هم من الوافدين من ذوي الإقامة المؤقتة الذين لا حول لهم ولا قوة، والذين اضطرتهم متطلبات المعيشة الصعبة إلى التكدس مع بعضهم البعض في هذه الشقق نظراً لرخصها، ولأنهم بشكل متزايد هم الوحيدون الذين يقبلون العيش في هذه المناطق ذات البنية التحتية المترهلة والازدحام الذي لا يُطاق. مبادرة المجلس البلدي لحل مسألة عمارات «الشقق والدكاكين» كانت تتطرق في جوهرها إلى مشكلة حقيقية من المهم أن يوجد لها حل عادل. في غضون بضعة أيام، صدر خبر آخر أن قرار المجلس البلدي قد تم إيقافه.
المبررات التي تم سردها من قبل المنتفعين لرفع المنع تشدقت بأن العمارات «تسمح بإيواء عدد أكبر من الأسر البحرينية مقارنةً بالبيوت، والسماح ببناء العمارات سيوفّر حلاً لمشاكل السكن لدى الأسر البحرينية». بعيداً عن هذه الخزعبلات التي يعرف مدى مصداقيتها الجميع، حيث ان البحرينيين نادراً ما يسكنون في العمارات المبنية في وسط المدينة القديمة نظراً لصعوبة المعيشة فيها، فالمعروف أنه كان هناك ضغط هائل لرفع القرار البلدي من قبل المنتفعين. فهدم بيوت الأجداد وبناء عمارات «شقق ودكاكين» أصبح مردوداً مادياً مهماً لكثير من الأطراف المنتفعة.
النقطة من هذين المثالين هو أن إفرازات الدولة الريعية خلّفت شبكة مصالح تستفيد من تواصل الاقتصاد الريعي في حلته الحالية، وستحارب التغيير الجذري لأنه يضر بهذه المصالح وتحد من الأرباح التي يجنونها. هذه الشبكة تتعدى فيما بينها متخذي القرار والمتنفذين الكبار، بل ان الشبكة المستفيدة من الريع قد تجذرت حتى إلى صغار المنتفعين. ورغم هزالة ما يجنونه مقارنة بالـ «هوامير» fat cats، فالحقيقة أن جزءًا كبيراً من دخلهم يأتي أساساً من ريع أيضاً (أما عن طريق عقار أو أيدٍ عاملة وافدة مكفولة أو تسجيل تجاري مؤجّر)، والمطالبة بتغيير هذه الشبكة من المصالح أصبح صعباً. وحقيقةً فمن الصعب الطلب من هذه الأطراف الاستغناء عما هو فتات الريع، بينما يواصل الهوامير في شفط أغلب موارد المنطقة.
النقطة المهمة الأخرى هي أن محاولات الإصلاح الخجولة والمتجزئة، حيث تحاول الدولة تارةً تطبيق إصلاح جزئي في سوق العمل، وتارةً أخرى وضع مجالس تشريعية ذات صلاحيات تثير الشفقة، ومن ثم التشدق بأن هذه الخلطة بقدرة قادر ستحل الأمور في دولة تجذرت فيها مشاكل الدولة الريعية، هو أمرٌ مستبعدٌ من أساسه. ما هو مطلوب هو تغيير جذري، ولا مانع إن طبق بالتدريج، ولكن في البداية يجب أن تكون هناك خطة متكاملة تبين الهدف والخريطة للوصول إليه والمدة الزمنية لاستكمال كل محطة في الطريق. وأول هذا الاصلاح يجب أن يأتي في أعلى الهرم قبل قاعدته، وإلا فإن محاولة تغيير الفتات من دون التطرق إلى الخلل الكبير لن تكون مجدية.
في رأيي أن أكبر تحدٍ سيواجه جيلنا هو ادراك أن هذه الشبكة من المصالح التي بنيت حول الدولة الريعية من المستحيل استدامتها على المدى البعيد، وأن التصدي لها بشكل صحيح سيتطلب تغييراً جذرياً سيمس كل المصالح التي بنيت حول هذه الشبكة، وإلا سيكون من الصعب جداً تجنب ما يواجه المنطقة من مصير «مدن الملح» على المدى الطويل..